سورة التوبة - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} اتسعت، {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} غما وهما، {وَظَنُّوا} أي: تيقنوا، {أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} لا مفزع من الله، {إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} أي: ليستقيموا على التوبة فإن توبتهم قد سبقت. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} قال نافع: مع محمد وأصحابه. وقال سعيد بن جبير: مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال ابن جريج: مع المهاجرين، لقوله تعالى: {للفقراء المهاجرين} إلى قوله: {أولئك هم الصادقون} [الحشر- 8]. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاص نية. وقيل: مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة.
وكان ابن مسعود يقرأ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وقال ابن مسعود: إن الكذب لا يصلح في جِدٍّ ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجز له، اقرؤوا إن شئتم وقرأ هذه الآية.
قوله تعالى: {مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ} ظاهره خبر، ومعناه نهي، كقوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} [الأحزاب- 53]{وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ} سكان البوادي: مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار. {أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} إذا غزا. {وَلا يَرْغَبُوا} أي: ولا أن يرغبوا، {بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه. قال الحسن: لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ} في سفرهم، {ظَمَأٌ} عطش، {وَلا نَصَبٌ} تعب، {وَلا مَخْمَصَةٌ} مجاعة، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا} أرضا، {يَغِيظُ الْكُفَّارَ} وطؤهم إياه {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا} أي: لا يصيبون من عدوهم قتلا أو أسرا أو غنيمة أو هزيمة، {إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي مريم، حدثنا عباية بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار».
واختلفوا في حكم هذه الآية، قال قتادة: هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر، فأما غيره من الأئمة والولاة فيجوز لمن شاء من المسلمين أن يتخلف عنه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة.
وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي، وابن المبارك، وابن جابر، وعمر بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: إنها لأول هذه الأمة وآخرها.
وقال ابن زيد: هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله تعالى وأباح التخلف لمن يشاء، فقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}.


قوله تعالى: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً} أي: في سبيل الله، {صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} ولو عِلاقَةَ سوط، {وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا} لا يجاوزون واديا في مسيرهم مقبلين أو مدبرين. {إِلا كُتِبَ لَهُمْ} يعني: آثارهم وخطاهم، {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} روي عن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف».
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا جرير عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا الحسين حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة، حدثني بُسْر بن سعيد، حدثني زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خَلَفَ غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا».


قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية. قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما أنزل الله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا فكان المسلمون ينفرون جميعا إلى الغزو ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهذا نفي بمعنى النهي.
قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} أي: فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة ويبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} يعني الفرقة القاعدين، يتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام، فإذا رجعت السرايا أخبروهم بما أُنزل بعدهم، فتمكث السرايا يتعلمون ما نزل بعدهم، وتبعث سرايا أخر، فذلك قوله: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به، {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} لا يعملون بخلافه.
وقال الحسن: هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة، ومعناه: هلا نفر فرقة ليتفقهوا، أي: ليتبصروا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين، ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد فيخبروهم بنصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لعلهم يحذرون أن يعادوا النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار.
وقال الكلبي: لها وجه آخر وهو أن أحياء من بني أسد من خزيمة أصابتهم سنة شديدة فأقبلوا بالذراري حتى نزلوا المدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فنزل قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} أي: لم يكن لهم أن ينفروا كافة ولكن من كل قبيلة طائفة ليتفقهوا في الدين.
وقال مجاهد: نزلت في ناس خرجوا في البوادي ابتغاء الخير من أهلها فأصابوا منهم معروفا، ودَعَوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم: ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا، فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجًا، وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، أي: هلا نَفَر من كل فرقة طائفةٌ ليتفقهوا في الدين ويستمعوا ما أنزل بعدهم ولينذروا قومهم، يعني: الناس كلهم إذا رجعوا إليهم ويدعوهم إلى الله، لعلهم يحذرون بأس الله ونقمته، وقعدت طائفة يبتغون الخير.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنبأنا أبو الحسن الطيسفوني، حدثنا عبد الله بن عمر الجوهري، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أبي سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يرد الله به خيرا يُفَقِّهْهُ في الدين».
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، حدثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أنبأنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا».
والفقه: هو معرفة أحكام الدين، وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية، ففرض العين مثل: علم الطهارة والصلاة، والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم». وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واحد، يجب عليه معرفة علمها، مثل: علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه.
وأما فرض الكفاية فهو: أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا، فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا، وإذا قام من كل بلد واحد فتعلَّمه سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث، روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد».
قال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} الآية، أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: مثل بني قريظة والنضير وخيبر ونحوها.
وقيل: أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام وكان الشام أقرب إلى المدينة من العراق، {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} شِدَّةً وحمية. قال الحسن: صبرًا على جهادهم، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} بالعون والنصرة.

14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21